فصل: الْبَابُ الْخَامِسُ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [الصَّلَاةُ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ]:

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّفْلِ فِي ذَلِكَ وَالْفَرْضِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَالِاحْتِمَالُ الْمُتَطَرِّقُ لِمَنِ اسْتَقْبَلَ أَحَدَ حِيطَانِهَا مِنْ دَاخِلٍ هَلْ يُسَمَّى مُسْتَقْبِلًا لِلْبَيْتِ كَمَا يُسَمَّى مَنِ اسْتَقْبَلَهُ مِنْ خَارِجٍ أَمْ لَا؟
أَمَّا الْأَثَرُ، فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ كِلَاهُمَا ثَابِتٌ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ» وَالثَّانِي حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ وَمَكَثَ فِيهَا، فَسَأَلْتُ: بِلَالًا حِينَ خَرَجَ مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى» فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ أَوِ النَّسْخِ قَالَ: إِمَّا بِمَنْعِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا إِنْ رَجَّحَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِمَّا بِإِجَازَتِهَا مُطْلَقًا إِنْ رَجَّحَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا حَمَلَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى الْفَرْضِ وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى النَّفْلِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِيهِ عَسِرٌ، فَإِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ صَلَّاهُمَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَارِجَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ «هَذِهِ الْقِبْلَةُ» هِيَ نَفْلٌ، وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ سُقُوطِ الْأَثَرِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ وَالِاتِّفَاقِ لَمْ يُجِزِ الصَّلَاةَ دَاخِلَ الْبَيْتِ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَرَى اسْتِصْحَابَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ عَادَ النَّظَرُ فِي انْطِلَاقِ اسْمِ الْمُسْتَقْبِلِ لِلْبَيْتِ عَلَى مَنْ صَلَّى دَاخِلَ الْكَعْبَةِ، فَمَنْ جَوَّزَهُ أَجَازَ الصَّلَاةَ، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لَمْ يُجِزِ الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ]: [سُتْرَةُ الْمُصَلِّي]:

وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ بِأَجْمَعِهِمْ عَلَى اسْتِحْبَابِ السُّتْرَةِ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالْقِبْلَةِ إِذَا صَلَّى، مُنْفَرِدًا كَانَ أَوْ إِمَامًا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤَخَّرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ».
وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَطِّ إِذَا لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَخُطَّ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَخُطُّ خَطًّا بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي تَصْحِيحِ الْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي الْخَطِّ، وَالْأَثَرُ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ عَصًا فَلْيَخُطَّ خَطًّا وَلَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُصَحِّحُهُ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يُصَحِّحُهُ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى لِغَيْرِ سُتْرَةٍ» وَالْحَدِيثُ الثَّابِتُ «أَنَّهُ كَانَ يُخْرَجُ لَهُ الْعَنَزَةُ»، فَهَذِهِ جُمْلَةُ قَوَاعِدِ هَذَا الْبَابِ وَهِيَ أَرْبَعُ مَسَائِلَ.

.الْبَابُ الرَّابِعُ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَاللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ:

وَهَذَا الْبَابُ يَنْقَسِمُ إِلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ.
وَالثَّانِي: فِيمَا يُجْزِئُ مِنَ اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: [سَتْرُ الْعَوْرَةِ]:

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ بِإِطْلَاقٍ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْعَوْرَةِ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [هَلِ السَّتْرُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ]:

وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهَا مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ تَعَارُضُ الْآثَارِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} هَلِ الْأَمْرُ بِذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ، أَوْ عَلَى النَّدْبِ؟
فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَةً وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: «وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى النَّدْبِ قَالَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ مِنَ الرِّدَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَابِسِ الَّتِي هِيَ زِينَةٌ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَاقِدِي أُزُرَهُمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ كَهَيْئَةِ الصِّبْيَانِ، وَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ لَا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا قَالُوا: وَلِذَلِكَ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَا بِهِ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّهُ يُصَلِّي، وَاخْتُلِفَ فِي مَنْ عَدِمَ الطَّهَارَةَ هَلْ يُصَلِّي أَمْ لَا يُصَلِّي؟

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [عَوْرَةُ الرَّجُلِ]:

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ حَدُّ الْعَوْرَةِ مِنَ الرَّجُلِ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ حَدَّ الْعَوْرَةِ مِنْهُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْعَوْرَةُ هُمَا السَّوْأَتَانِ فَقَطْ مِنَ الرَّجُلِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَثَرَانِ مُتَعَارِضَانِ كِلَاهُمَا ثَابِتٌ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ جُرْهُدٍ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْفَخِذُ عَوْرَةٌ».
وَالثَّانِي: حَدِيثُ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَرَ عَنْ فَخِذِهِ، وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ» قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ وَحَدِيثُ جُرْهُدٍ أَحْوَطُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَوْرَةُ الدُّبُرُ، وَالْفَرْجُ، وَالْفَخِذُ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ]:

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ حَدُّ الْعَوْرَةِ فِي الْمَرْأَةِ، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ بَدَنَهَا كُلَّهُ عَوْرَةٌ مَا خَلَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ قَدَمَهَا لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ، وَذَهَبَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ احْتِمَالُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هَلْ هَذَا الْمُسْتَثْنَى الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَعْضَاءٌ مَحْدُودَةٌ، أَمْ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ مَا لَا يُمْلَكُ ظُهُورُهُ؟
فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُمْلَكُ ظُهُورُهُ عِنْدَ الْحَرَكَةِ قَالَ: بَدَنُهَا كُلُّهُ عَوْرَةٌ حَتَّى ظَهْرُهَا، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِي قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَرُ وَهُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ تَسَتُرُ وَجْهَهَا فِي الْحَجِّ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ فِيمَا يُجْزِئُ فِي اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ.

أَمَّا اللِّبَاسُ فَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، وَالنَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ هَيْئَاتِ بَعْضِ الْمَلَابِسِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا فِيمَا أَحْسَبُ عَلَى أَنَّ الْهَيْئَاتِ مِنَ اللِّبَاسِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا مِثْلَ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ (وَهُوَ أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ) وَسَائِرِ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ - أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ سَدُّ ذَرِيعَةِ أَلَّا تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ لَا تَجُوزُ صَلَاةٌ عَلَى إِحْدَى هَذِهِ الْهَيْئَاتِ إِنْ لَمْ تَنْكَشِفْ عَوْرَتُهُ، وَقَدْ كَانَ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ الظَّاهِرِ يَجِبُ ذَلِكَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ الرَّجُلَ مِنَ اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ لِقَوْلِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ أَيُصَلِّي الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟
فَقَالَ «أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟
»
، وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي مَكْشُوفَ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ صَلَاتِهِ لِكَوْنِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ مِنَ الرَّجُلِ لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَمَسَّكَ بِوُجُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ اللِّبَاسَ الْمُجْزِئَ لِلْمَرْأَةِ فِي الصَّلَاةِ هُوَ دِرْعٌ وَخِمَارٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا تُصَلِّي فِيهِ الْمَرْأَةُ؟
فَقَالَ: فِي الْخِمَارِ، وَالدِّرْعِ السَّابِغِ إِذَا غَيَّبَتْ ظُهُورَ قَدَمَيْهَا»
، وَلِمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ»، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ، وَمَيْمُونَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُفْتُونَ بِذَلِكَ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إِنَّهَا إِنْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةً أَعَادَتْ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ، إِلَّا مَالِكًا فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا تُعِيدُ فِي الْوَقْتِ فَقَطْ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْخَادِمَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ وَالْقَدَمَيْنِ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُوجِبُ عَلَيْهَا الْخِمَارَ وَاسْتَحَبَّهُ عَطَاءٌ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: الْخِطَابُ الْمُتَوَجِّهُ إِلَى الْجِنْسِ الْوَاحِدِ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ مَعًا أَمِ الْأَحْرَارَ فَقَطْ دُونَ الْعَبِيدِ؟
وَاخْتَلَفُوا فِي صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الثَّوْبِ الْحَرِيرِ فَقَالَ قَوْمٌ: تَجُوزُ صَلَاتُهُ فِيهِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَجُوزُ، وَقَوْمٌ اسْتَحَبُّوا لَهُ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: هَلِ الشَّيْءُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُطْلَقًا اجْتِنَابُهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟
فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ شَرْطٌ: قَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجُوزُ بِهِ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ بِلِبَاسِهِ مَأْثُومًا، وَالصَّلَاةُ جَائِزَةٌ قَالَ: لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ كَالطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنْ نَوْعِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْخِلَافُ فِيهَا مَشْهُورٌ.

.الْبَابُ الْخَامِسُ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ:

وَأَمَّا الطَّهَارَةُ مِنَ النَّجَسِ من شروط صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَيَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ إِنَّهَا فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ أَيْ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا فَرْضٌ بِإِطْلَاقٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ إِنَّهَا فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَقُولَ ذَلِكَ، وَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنِ الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ، وَالذِّكْرِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا. وَالَّذِي حَكَاهُ مِنْ أَنَّهَا شَرْطٌ لَا يَتَخَرَّجُ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ غُسْلَ النَّجَاسَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَإِنَّمَا يَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَرْضٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَعُرِفَ هُنَالِكَ أَسْبَابُ الْخِلَافِ فِيهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ هَهُنَا الْكَلَامُ مِنْ ذَلِكَ: هَلْ مَا هُوَ فَرْضٌ مُطْلَقٌ مِمَّا يَقَعُ فِي الصَّلَاةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا فِي الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟
وَالْحَقُّ أَنَّ الشَّيْءَ الْمَأْمُورَ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ شَيْءٍ مَا آخَرَ مَأْمُورٍ بِهِ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ إِلَّا بِأَمْرٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي الشَّيْءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ شَيْءٍ مَا إِلَّا بِأَمْرٍ آخَرَ.

.الْبَابُ السَّادِسُ الْمَوَاضِعُ الَّتِي لَا يُصَلَّى فِيهَا:

وَأَمَّا الْمَوَاضِعُ الَّتِي يُصَلَّى فِيهَا، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تَكُونُ فِيهِ نَجَاسَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةَ مَوَاضِعَ: الْمَزْبَلَةَ، وَالْمَجْزَرَةَ، وَالْمَقْبَرَةَ، وَقَارِعَةَ الطَّرِيقِ، وَالْحَمَّامَ، وَمَعَاطِنَ الْإِبِلِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْمَقْبَرَةَ فَقَطْ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَلَمْ يُبْطِلْهَا وَهُوَ أَحَدُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ الْجَوَازُ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ ظَوَاهِرِ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَهُنَا حَدِيثَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِمَا وَحَدِيثَيْنِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا. فَأَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِمَا فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، وَذَكَرَ فِيهَا: وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَطَهُورًا، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ صَلَّيْتُ» وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا»، وَأَمَّا الْغَيْرُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا فَأَحَدُهُمَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: فِي الْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَفِي الْحَمَّامِ وَفِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَالثَّانِي مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ» فَذَهَبَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: مَذْهَبُ التَّرْجِيحِ، وَالنَّسْخِ.
وَالثَّانِي: مَذْهَبُ الْبِنَاءِ: (أَعْنِي: بِنَاءَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ).
وَالثَّالِثُ: مَذْهَبُ الْجَمْعِ.
فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ وَالنَّسْخِ فَأَخَذَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَقَالَ: هَذَا نَاسِخٌ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ هِيَ فَضَائِلُ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ.
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ بِنَاءِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَقَالَ: حَدِيثُ الْإِبَاحَةِ عَامٌّ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ خَاصٌّ، فَيَجِبُ أَنْ يُبْنَى الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ. فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنِ اسْتَثْنَى السَّبْعَةَ مَوَاضِعَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ وَقَالَ: هَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْهُمَا مُفْرَدَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَثْنَى الْمَقْبَرَةَ فَقَطْ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ خَاصًّا مِنْ عَامٍّ فَقَالَ أَحَادِيثُ النَّهْيِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَالْأَوَّلُ عَلَى الْجَوَازِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، فَكَرِهَهَا قَوْمٌ، وَأَجَازَهَا قَوْمٌ، وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا صِوَرٌ أَوْ لَا يَكُونَ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِقَوْلِ عُمَرَ: (لَا تَدْخُلْ كَنَائِسَهُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ) وَالْعِلَّةُ فِيمَنْ كَرِهَهَا لَا مِنْ أَجْلِ التَّصَاوِيرِ، حَمَلَهَا عَلَى النَّجَاسَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الطَّنَافِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقْعَدُ عَلَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِبَاحَةِ السُّجُودِ عَلَى الْحَصِيرِ وَمَا يُشْبِهُهُ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ، وَالْكَرَاهِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.

.الْبَابُ السَّابِعُ فِي مَعْرِفَةِ التُّرُوكِ الَّتِي هِيَ شُرُوطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ:

وَأَمَّا التُّرُوكُ الْمُشْتَرَطَةُ فِي الصَّلَاةِ، فَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مِنْهَا قَوْلًا، وَمِنْهَا فِعْلًا. فَأَمَّا الْأَفْعَالُ، فَجَمِيعُ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، إِلَّا قَتْلَ الْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ لِمُعَارَضَةِ الْأَثَرِ فِي ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ، وَاتَّفَقُوا فِيمَا أَحْسَبُ عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ الْخَفِيفِ.
وَأَمَّا الْأَقْوَالُ، فَهِيَ أَيْضًا الْأَقْوَالُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ أَقَاوِيلِ الصَّلَاةِ، وَهَذِهِ أَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ عَمْدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وَلِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ» وَمِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ» وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ صَلَاتَنَا لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا إِذَا تَكَلَّمَ سَاهِيًا في الصلاة، وَالْآخَرُ إِذَا تَكَلَّمَ عَامِدًا لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ. وَشَذَّ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ: مَنْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ لِإِحْيَاءِ نَفْسٍ أَوْ لِأَمْرٍ كَبِيرٍ، فَإِنَّهُ يَبْنِي، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ التَّكَلُّمَ عَمْدًا عَلَى جِهَةِ الْإِصْلَاحِ للصلاة هل يفسدها؟
لَا يُفْسِدُهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْسِدُهَا التَّكَلُّمُ كَيْفَ كَانَ إِلَّا مَعَ النِّسْيَانِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُفْسِدُهَا التَّكَلُّمُ كَيْفَ كَانَ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُتَقَدِّمَةَ تَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْكَلَامِ عَلَى الْعُمُومِ، وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَشْهُورَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنَ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟
فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ»
ظَاهِرُهُ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ، وَأَنَّهُمْ بَنَوْا بَعْدَ التَّكَلُّمِ، وَلَمْ يَقْطَعْ ذَلِكَ التَّكَلُّمُ صَلَاتَهُمْ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَذَا الظَّاهِرِ، وَرَأَى أَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَخُصُّ الْكَلَامَ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ اسْتَثْنَى هَذَا مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عَمْدًا فِي الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ قَصُرَتْ، وَتَكَلَّمَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ تَمَّتْ، وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ تَكَلَّمُوا بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا قَصُرَتِ الصَّلَاةُ وَمَا نَسِيتُ» قَالَ: إِنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ إِجَازَةُ الْكَلَامِ لِغَيْرِ الْعَامِدِ، فَإِذًا السَّبَبُ فِي اخْتِلَافِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اعْتَمَدَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ أَصْلًا عَامًّا، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَحَمَلَ أَحَادِيثَ النَّهْيِ عَلَى عُمُومِهَا، وَرَأَى أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ وَأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهَا.

.الْبَابُ الثَّامِنُ فِي مَعْرِفَةِ النِّيَّةِ وَكَيْفِيَّةِ اشْتِرَاطِهَا فِي الصَّلَاةِ:

وَأَمَّا النِّيَّةُ: فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَوْنِهَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ لِكَوْنِ الصَّلَاةِ هِيَ رَأْسَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الشَّرْعِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ مَعْقُولَةٍ: (أَعْنِي: مِنَ الْمَصَالِحِ الْمَحْسُوسَةِ) وَاخْتَلَفُوا هَلْ مِنْ شَرْطِ نِيَّةِ الْمَأْمُومِ أَنْ تُوَافِقَ نِيَّةَ الْإِمَامِ فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ وَفِي الْوُجُوبِ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَأْمُومُ ظُهْرًا بِإِمَامٍ يُصَلِّي عَصْرًا؟
وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ ظُهْرًا يَكُونُ فِي حَقِّهِ نَفْلًا، وَفِي حَقِّ الْمَأْمُومِ فَرْضًا؟
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تُوَافِقَ نِيَّةُ الْمَأْمُومِ نِيَّةَ الْإِمَامِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُصَلِّي بِقَوْمِهِ، فَمَنْ رَأَى ذَلِكَ خَاصًّا لِمُعَاذٍ، وَأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» يَتَنَاوَلُ النِّيَّةَ اشْتَرَطَ مُوَافَقَةَ الْإِمَامِ لِلْمَأْمُومِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ لِمُعَاذٍ فِي ذَلِكَ هِيَ إِبَاحَةٌ لِغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ وَهُوَ الْأَصْلُ قَالَ: لَا يَخْلُو الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعُمُومُ الَّذِي فِيهِ لَا يَتَنَاوَلُ النِّيَّةَ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَفْعَالِ، فَلَا يَكُونُ بِهَذَا الْوَجْهِ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ مُعَاذٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَتَنَاوَلُهَا فَيَكُونُ حَدِيثُ مُعَاذٍ قَدْ خَصَّصَ ذَلِكَ الْعُمُومَ. وَفِي النِّيَّةِ مَسَائِلُ لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ رَأَيْنَا تَرْكَهَا إِذْ كَانَ غَرَضُنَا عَلَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا هُوَ الْكَلَامَ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ.

.الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ:

أَرْكَانُ الصَّلَاةِ وَهِيَ مَعْرِفَةُ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَالْأَفْعَالِ، وَهِيَ الْأَرْكَانُ وَالصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَةُ تَخْتَلِفُ فِي هَذَيْنِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، إِمَّا مِنْ قِبَلِ الِانْفِرَادِ وَالْجَمَاعَةِ، وَإِمَّا مِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ (مِثْلَ مُخَالَفَةِ ظُهْرِ الْجُمُعَةِ لِظُهْرِ سَائِرِ الْأَيَّامِ) وَإِمَّا مِنْ قِبَلِ الْحَضَرِ، وَالسَّفَرِ، وَإِمَّا مِنْ قِبَلِ الْأَمْنِ، وَالْخَوْفِ، وَإِمَّا مِنْ قِبَلِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، فَإِذَا أُرِيدَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ صِنَاعِيًّا، وَجَارِيًا عَلَى نِظَامٍ فَيَجِبُ أَنَّ يُقَالَ أَوَّلًا فِيمَا تَشْتَرِكُ فِيهِ هَذِهِ كُلُّهَا، ثُمَّ يُقَالَ فِيمَا يَخُصُّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً مِنْهَا، أَوْ يُقَالَ فِي وَاحِدَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَهُوَ الْأَسْهَلُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّعْلِيمِ يَعْرِضُ مِنْهُ تَكْرَارٌ مَا، وَهُوَ الَّذِي سَلَكَهُ الْفُقَهَاءُ، وَنَحْنُ نَتْبَعُهُمْ فِي ذَلِكَ، فَنَجْعَلُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُنْقَسِمَةً إِلَى سِتَّةِ أَبْوَابٍ.
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ الْحَاضِرِ الْآمِنِ الصَّحِيحِ.
الْبَابُ الثَّانِي: فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ: (أَعْنِي: فِي أَحْكَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الصَّلَاةِ).
الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
الْبَابُ الرَّابِعُ: فِي صَلَاةِ السَّفَرِ.
الْبَابُ الْخَامِسُ: فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ.
الْبَابُ السَّادِسُ: فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ الْحَاضِرِ الْآمِنِ الصَّحِيحِ:

وَهَذَا الْبَابُ فِيهِ فَصْلَانِ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَقْوَالِ الصَّلَاةِ.
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَقْوَالِ الصَّلَاةِ:

وَفِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ قَوَاعِدِ الْمَسَائِلِ تِسْعُ مَسَائِلَ:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [التَّكْبِيرُ]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّكْبِيرِ فى الصلاة عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: فَقَوْمٌ قَالُوا: إِنَّ التَّكْبِيرَ كُلَّهُ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ. وَقَوْمٌ قَالُوا: إِنَّهُ كُلَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ شَاذٌّ. وَقَوْمٌ أَوْجَبُوا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ فَقَطْ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ كُلَّهُ وَمَنْ أَوْجَبَ مِنْهُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ فَقَطْ: مُعَارَضَةُ مَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ لِمَا نُقِلَ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَشْهُورُ أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: «إِذَا أَرَدْتَ الصَّلَاةَ، فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ كَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ» فَمَفْهُومُ هَذَا هُوَ أَنَّ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى هِيَ الْفَرْضُ فَقَطْ، وَلَوْ كَانَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ التَّكْبِيرِ فَرْضًا لَذَكَرَهُ لَهُ كَمَا ذَكَرَ سَائِرَ فُرُوضِ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ فِعْلِهِ، فَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي، فَيُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ، وَرَفَعَ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَمِنْهَا حَدِيثُ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: «صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ كَبَّرَ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، وَانْصَرَفْنَا أَخَذَ عِمْرَانُ بِيَدِهِ، فَقَالَ: أَذْكَرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَالْقَائِلُونَ بِإِيجَابِهِ تَمَسَّكُوا بِهَذَا الْعَمَلِ الْمَنْقُولِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَقَالُوا: الْأَصْلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ أَفْعَالِهِ الَّتِي أَتَتْ بَيَانًا لِوَاجِبٍ، مَحْمُولَةً عَلَى الْوُجُوبِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَقَالَتِ الْفِرْقَةُ الْأُولَى: مَا فِي هَذِهِ الْآثَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ وَلِذَلِكَ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عِمْرَانُ: أَذْكَرَنِي هَذَا بِصَلَاتِهِ صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ التَّكْبِيرَ كُلَّهُ نَفْلًا فَضَعِيفٌ، وَلَعَلَّهُ قَاسَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَذْكَارِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ مِمَّا لَيْسَتْ بِوَاجِبٍ، إِذْ قَاسَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ عَلَى سَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ مَا رَوَاهُ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عِمْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُتِمَّ التَّكْبِيرَ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَلَمْ يُتِمَّ التَّكْبِيرَ، وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُكَبِّرُ إِذَا صَلَّى وَحْدَهُ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوْا أَنَّ التَّكْبِيرَ إِنَّمَا هُوَ لِمَكَانِ إِشْعَارِ الْإِمَامِ لِلْمَأْمُومِينَ بِقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِلَى هَذَا ذَهَبَ مَنْ رَآهُ نَفْلًا.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [لَفْظُ التَّكْبِيرِ في الصلاة]:

قَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُ مِنْ لَفْظِ التَّكْبِيرِ إِلَّا: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَاللَّهُ الْأَكْبَرُ اللَّفْظَانِ كِلَاهُمَا يُجْزِئُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُ مِنْ لَفْظِ التَّكْبِيرِ كُلُّ لَفْظٍ فِي مَعْنَاهُ مِثْلَ: اللَّهُ الْأَعْظَمُ، وَاللَّهُ الْأَجَلُّ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ اللَّفْظُ هُوَ الْمُتَعَبَّدُ بِهِ فِي الِافْتِتَاحِ أَوِ الْمَعْنَى، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَالِكِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» قَالُوا: وَالْأَلِفُ، وَاللَّامُ هَهُنَا لِلْحَصْرِ، وَالْحَصْرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ خَاصٌّ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ يُوَافِقُهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُوَ أَنْ يُحْكَمَ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِضِدِّ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَدَلِيلُ الْخِطَابِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [دُعَاءُ التَّوَجُّهِ]:

ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ التَّوْجِيهَ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ: إِمَّا {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَإِمَّا أَنْ يُسَبِّحَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَصَاحِبِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ التَّوْجِيهُ بِوَاجِبٍ فِي الصَّلَاةِ وَلَا بِسُنَّةٍ. وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: مُعَارَضَةُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ بِالتَّوْجِيهِ لِلْعَمَلِ عِنْدَ مَالِكٍ، أَوْ الِاخْتِلَافُ فِي صِحَّةِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ، وَأُمِّي: إَسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟
قَالَ: أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ»
، وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى اسْتِحْسَانِ سَكَتَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الصَّلَاةِ، مِنْهَا حِينَ يُكَبِّرُ، وَمِنْهَا حِينَ يَفْرُغُ مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ وَإِذَا فَرَغَ مِنِ الْقِرَاءَةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي تَصْحِيحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَكَتَاتٍ فِي صَلَاتِهِ حِينَ يُكَبِّرُ، وَيَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ، وَحِينَ يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْقِرَاءَةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ».

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ]:

اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي افْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَمَنَعَ ذَلِكَ مَالِكٌ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ جَهْرًا كَانَتْ أَوْ سِرًّا، لَا فِي اسْتِفْتَاحِ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنَ السِّوَرِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي النَّافِلَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ: يَقْرَؤُهَا مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سِرًّا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقْرَؤُهَا وَلَا بُدَّ فِي الْجَهْرِ جَهْرًا، وَفِي السِّرِّ سِرًّا، وَهِيَ عِنْدَهُ آيَةٌ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ؟
أَمْ إِنَّمَا هِيَ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ فَقَطْ، وَمِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ؟
فَرُوِيَ عَنْهُ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا. وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا آيِلٌ إِلَى شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَالثَّانِي: اخْتِلَافُهُمْ: هَلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَمْ لَا؟
فَأَمَّا الْآثَارُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا مَنْ أَسْقَطَ ذَلِكَ، فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ «سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ، وَالْحَدَثَ، فَإِنِّي صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَلَمْ أَسْمَعْ رَجُلًا مِنْهُمْ يَقْرَؤُهَا» قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ابْنُ مُغَفَّلٍ رَجُلٌ مَجْهُولٌ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: «قُمْتُ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكُلُّهُمْ كَانَ لَا يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ إِذَا افْتَتَحُوا الصَّلَاةَ» قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ: «خَلْفَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ لَا يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» فَقَالَ أَبُو عُمَرَ: إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ قَالُوا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا: إِنَّ النَّقْلَ فِيهِ مُضْطَرِبٌ اضْطِرَابًا لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّةً رُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَرَّةً لَمْ يُرْفَعْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ عُثْمَانَ وَمَنْ لَا يَذْكُرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: فَكَانُوا يَقْرَءُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: فَكَانُوا لَا يَقْرَءُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمُعَارِضَةُ لِهَذَا، فَمِنْهَا حَدِيثُ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجَمَّرِ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَبْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَقَبْلَ السُّورَةِ وَكَبَّرَ فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ وَقَالَ: أَنَا أَشْبَهُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَمِنْهَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» فَاخْتِلَافُ هَذِهِ الْآثَارِ أَحَدُ مَا أَوْجَبَ اخْتِلَافَهُمْ فِي قِرَاءَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الصَّلَاةِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي كَمَا قُلْنَا هُوَ: هَلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ وَحْدَهَا أَوْ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ أَمْ لَيْسَتْ آيَةً لَا مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ وَلَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ؟
فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ أَوْجَبَ قِرَاءَتَهَا بِوُجُوبِ قِرَاءَةِ أُمِّ الْكِتَابِ عِنْدَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَجَبَ عِنْدَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا مَعَ السُّورَةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا، وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ، وَلَكِنْ مِنْ أَعْجَبِ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: رُبَّمَا اخْتُلِفَ فِي هَلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ؟
أَمْ إِنَّمَا هِيَ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ فَقَطْ؟
وَيَحْكُونَ عَلَى جِهَةِ الرَّدِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نُقِلَ تَوَاتُرًا، هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي فِي الرَّدِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَظَنَّ أَنَّهُ قَاطِعٌ، وَأَمَّا أَبُو حَامِدٍ فَانْتَصَرَ لِهَذَا بِأَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَيْضًا لَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ لَوَجَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ تَخَبُّطٌ وَشَيْءٌ غَيْرُ مَفْهُومٍ، فَإِنَّهُ كَيْفَ يَجُوزُ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ بِعَيْنِهَا أَنْ يُقَالَ فِيهَا: إِنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعٍ، وَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، بَلْ يُقَالُ: إِنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ حَيْثُمَا ذُكِرَتْ، وَأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، وَهَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ يُسْتَفْتَحُ بِهَا، مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهَا فِي سَائِرِ السِّوَرِ فَاتِحَةٌ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ بَيِّنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: [قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ في الصلاة]:

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لَا عَمْدًا، وَلَا سَهْوًا، إِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى، فَنَسِيَ الْقِرَاءَةَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ؟
فَقِيلَ: حَسَنٌ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ إِذًا، وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ عِنْدَهُمْ، أَدْخَلَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَإِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ فِي صَلَاةِ السِّرِّ، وَأَنَّهُ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَوَاتٍ، وَسَكَتَ فِي أُخْرَى»، فَنَقْرَأُ فِيمَا قَرَأَ وَنَسْكُتُ فِيمَا سَكَتَ، وَسُئِلَ هَلْ فِي الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ قِرَاءَةٌ؟
فَقَالَ: لَا.
وَأَخَذَ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ خَبَّابٍ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، قِيلَ فَبِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟
قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ»
وَتَعَلَّقَ الْكُوفِيُّونَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَرْكِ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ مِنَ الصَّلَاةِ لِاسْتِوَاءِ صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَالسِّرِّ فِي سُكُوتِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ ذَلِكَ أُمُّ الْقُرْآنِ لِمَنْ حَفِظَهَا، وَأَنَّ مَا عَدَاهَا لَيْسَ فِيهِ تَوْقِيتٌ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ أَوْجَبَهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا فِي أَكْثَرِ الصَّلَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا فِي نِصْفِ الصَّلَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا فِي رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهِيَ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إِنْ قَرَأَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ أَجَزَأَتْهُ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّهَا تُجْزِئُ فِي رَكْعَةٍ، فَمِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَالْوَاجِبُ عِنْدَهُ إِنَّمَا هُوَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَيُّ آيَةٍ اتَّفَقَتْ أَنْ تُقْرَأَ، وَحَدَّ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةً طَوِيلَةً مِثْلَ آيَةِ الدَّيْنِ، وَهَذَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَأَمَّا فِي الْأَخِيرَتَيْنِ، فَيُسْتَحَبُّ عِنْدَهُ التَّسْبِيحُ فِيهِمَا دُونَ الْقِرَاءَةِ، وَبِهِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ. وَالْجُمْهُورُ يَسْتَحِبُّونَ الْقِرَاءَةَ فِيهَا كُلِّهَا. وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ لِلْأَثَرِ، أَمَّا الْآثَارُ الْمُتَعَارِضَةُ فِي ذَلِكَ، فَأَحَدُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتُ: «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ وَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَصَلَّى، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» وَأَمَّا الْمُعَارِضُ لِهَذَا فَحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا:
أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا» وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّانِي يَقْتَضِيَانِ أَنَّ أُمَّ الْقُرْآنِ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ أم لا؟
، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} يُعَضِّدُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمَ، وَالْعُلَمَاءُ الْمُخْتَلِفُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا ذَهَبُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَذْهَبَ الْجَمْعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا ذَهَبُوا مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ يُتَصَوَّرُ هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ مَنْ أَوْجَبَ قِرَاءَةَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا أَرْجَحُ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يُوَافِقُهُ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ عُبَادَةَ الْمَقْصُودُ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ لَا نَفْيُ الْإِجْزَاءِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِعْلَامُ بِالْمُجْزِئِ مِنِ الْقِرَاءَةِ، إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْلِيمَ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ. وَلِأُولَئِكَ أَيْضًا أَنَّ يَذْهَبُوا هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ بِأَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَوْضَحُ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَشْهُورَ يُعَضِّدُهُ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ يَقُولُ تَعَالَى: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ: نِصْفَهَا لِي، وَنِصْفَهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَقُولُ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي» الْحَدِيثَ، وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا أَيْضًا إِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» مُبْهَمٌ وَالْأَحَادِيثَ الْأُخَرَ مُعَيِّنَةٌ، وَالْمُعَيِّنُ يَقْضِي عَلَى الْمُبْهَمِ، وَهَذَا فِيهِ عُسْرٌ، فَإِنَّ مَعْنَى حَرْفِ (مَا) هَهُنَا إِنَّمَا هُوَ مَعْنَى أَيِّ شَيْءٍ تَيَسَّرَ، وَإِنَّمَا يَسُوغُ هَذَا إِنْ دَلَّتْ (مَا) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ لَامُ الْعَهْدِ، فَكَانَ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: اقْرَأِ الَّذِي تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ وَيَكُونُ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أُمَّ الْكِتَابِ، إِذَا كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي (الَّذِي) تَدُلُّ عَلَى الْعَهْدِ، فَيَنْبَغِي أَنَّ يُتَأَمَّلَ هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِنْ وَجَدْتَ الْعَرَبَ تَفْعَلُ هَذَا (أَعْنِي تَتَجَوَّزُ فِي مَوْطِنٍ مَا) فَتَدُلُّ بِـ (مَا) عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَلْيَسُغْ هَذَا التَّأْوِيلُ، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لَهُ، فَالْمَسْأَلَةُ كَمَا تَرَى مُحْتَمِلَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ يَرْتَفِعُ الِاحْتِمَالُ لَوْ ثَبَتَ النَّسْخُ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ مَنْ أَوْجَبَ أُمَّ الْكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَوْ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ فَسَبَبُهُ احْتِمَالُ عَوْدَةِ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» عَلَى كُلِّ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى بَعْضِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَرَأَ فِي الْكُلِّ مِنْهَا أَوْ فِي الْجُزْءِ. أَعْنِي: فِي رَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا» وَهَذَا الِاحْتِمَالُ بِعَيْنِهِ هُوَ الَّذِي أَصَارَ أَبَا حَنِيفَةَ إِلَى أَنْ يَتْرُكَ الْقِرَاءَةَ أَيْضًا فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ: (أَعْنِي: فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ) وَاخْتَارَ مَالِكٌ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ بِالْحَمْدِ وَسُورَةٍ، وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِالْحَمْدِ فَقَطْ، فَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنْ تُقْرَأَ فِي الْأَرْبَعِ مِنَ الظُّهْرِ بِالْحَمْدِ، وَسُورَةٍ إِلَّا أَنَّ السُّورَةَ الَّتِي تَكُونُ فِي الْأُولَيَيْنِ تَكُونُ أَطْوَلَ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الثَّابِتِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَقَطْ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الثَّابِتِ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الْعَصْرِ لِاتِّفَاقِ الْحَدِيثَيْنِ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا «أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ».